قصة اكتشاف الأنسولين

عدي موسى
نشرت منذ أسبوع واحد يوم 19 أبريل, 2024
بواسطة عدي موسى
قصة اكتشاف الأنسولين

لسنوات عديدة قبل اكتشاف الأنسولين، اعتقد العلماء أن هناك نوعًا من الإفراز الداخلي للبنكرياس، يعتبر المفتاح لمنع مرض السكري والتحكم في التمثيل الغذائي أو عملية الأيض الطبيعية. لكن، لم يتمكن أحد من العثور عليه، حتى صيف عام 1921، عندما بدأ فريق من جامعة تورنتو في تجربة نهج تجريبي جديد اقترحه الدكتور فريدريك بانتينغ من أجل اكتشاف الأنسولين.

بحلول ربيع عام 1922 ، كان باحثو تورنتو بانتينغ، وتشارلز بست، وكوليب ومشرفهم ماكلويد قد تمكنوا من الإعلان عن اكتشاف الأنسولين. وفي عام 1923، حصل ماكلويد وبانتينغ على جائزة نوبل لأحد أهم النجاحات وأكثرها إثارة للجدل في التاريخ الطبي الحديث.

أبحاث ما قبل اكتشاف الأنسولين

لعدة قرون قبل اكتشاف الأنسولين، كان الناس يعرفون القليل عن مرض السكري، واستمر هذا الوضع، حتى نهاية القرن التاسع عشر.

في البداية، كان يُعتقد أن عدم قدرة الجسم على معالجة الكربوهيدرات والعناصر الغذائية الأخرى، وهو ما يتجلى بشكل واضح في وجود السكر في البول، هو اضطراب في الكبد أو المعدة.

1889

لكن، في عام 1889 اكتشف الباحثان الألمان، أوسكار مينكوفسكي وجوزيف فون ميهرينغ، أن الكلاب التي تم فيها إزالة البنكرياس، على الفور أصبحت مصابة بمرض السكري الحاد والقاتل. يبدو أن هناك شيئًا ما في البنكرياس ضروري للوقاية من مرض السكري. منذ تلك اللحظة، بدأ الباحثون على الفور في محاولة اكتشاف الأنسولين.

نتائج سلبية

في البداية، كانت أغلب النتائج سلبية في علاج مرضى السكر. على سبيل المثال، لم ينجح إطعام البنكرياس لمرضى السكري. مع ذلك، أضافت المعرفة الجديدة حول اعتماد الجسم على الهرمونات لنقل الإشارات الكيميائية المعقولية، إلى الفرضية القائلة بأن هناك نوعًا من الإفراز الداخلي للبنكرياس يحافظ على التمثيل الغذائي الطبيعي.

وكان من المعروف  في ذلك الوقت، أن الغدة لديها إفرازات خارجية وعصارات هضمية تتدفق إلى أول جزء من الأمعاد الدقيقة للمساعدة على الهضم. فيما بعد، اكتشف باحث ألماني آخر يدعى بول لانغرهانز، نظامًا منفصلًا من الخلايا في البنكرياس، سميت لاحقًا بجزر لانغرهانز، أصبحت هذه الجزر المصدر المحتمل لإفراز المادة المجهولة. ولكن كيف يمكن فصل المادة عن باقي البنكرياس؟

في تلك الأثناء، كان مرض السكري في شكله الحاد، الذي يصيب الأطفال في كثير من الأحيان، مرض مخيف. ففي المرضى كان الجسد يقوم بطرد السكر الزائد عن طريق البول، مسبباً فقدان الوزن والقوة، وينتهي الأمر بالمريض إلى المعاناة من مضاعفات أخرى كثيرة، حتى يسقط المريض في نهاية المطاف في غيبوبة ثم يموت.

وكان كل ما يمكن أن يفعله مرضى السكري للتخلص من مرضهم هو تناول طعام أقل وأقل، فقط ما يفعلونه هو تأجيل الموت بسبب مرض السكري عن طريق تجويع أنفسهم.

ظل الباحثون يأملون أنه من خلال إطعام أو حقن البشر أو الحيوانات المصابة بداء السكري، بأجزاء من البنكرياس، يمكن أن يتسبب في تحسن في المرضى. فقد كانت الاستراتيجية العلاجية الأكثر شيوعًا في ذلك الحين، هي محاولة خفض نسبة السكر في البول، أو ربما نسبة السكر في الدم لمريض السكري. حتى ظهر الاكتشاف المأمول.

في الثلاثين عامًا التي تلت اكتشاف مينكوفسكي وفون مرينج عام 1889، حاول مئات المحققين في جميع أنحاء العالم العثور على الإفراز الداخلي. وقد تمكن بعض العلماء من أن يقولوا أن خلاصة البنكرياس تعمل بشكل متقطع وغير مقنع، وغالبًا ما يكون لها آثار جانبية ضارة.

1920

بحلول عام 1920، استسلم بعض العلماء للفكرة كلها، معتقدين أن الفكرة الكاملة لوجود إفراز داخلي للبنكرياس كانت فكرة لا داعي لها من الأساس. لكن واصل آخرون البحث من أجل اكتشاف الأنسولين، وبحلول هذا الوقت، بدأوا في استخدام أدوات أفضل، مثل التقنيات الجديدة لقياس السكر بسرعة في الدم والبول.

 فريدريك بانتينغ

في ليلة 31 أكتوبر 1920، دون فريدريك بانتنج هذه الفكرة التي ستكون بداية اكتشاف الأنسولين:

اربط قنوات البنكرياس للكلب. ثم دع الكلاب على قيد الحياة حتى تتآكل الغدد الخارجية للإفرازات الخارجية في البنكرياس، ثم اترك جزر لانجرهانز التي تفرز الإفرازات الداخلية. وحاول عزل الإفراز الداخلي لعلاج مرض السكري.

كان بانتينغ، نجل لمزارع من أليستون، أونتاريو. قد تخرج من كلية الطب من جامعة تورنتو في عام 1916، وقد شارك في الحرب العالمية الأولى، وقام بالعمل في الجراحة بعد التخرج.

وبينما بدأ بممارسة الطب في لندن، عمل لكسب المزيد من المال كمدرس بدوام جزئي في قسم علم وظائف الأعضاء في جامعة ويسترن أونتاريو المحلية (المعروفة حاليًا باسم الجامعة الغربية). حيث طور فكرته نتيجة لقرائته المسبقة التي كان يقوم بها لإعداد حديث لطلاب الطب حول عضو البنكرياس. كان لدى بانتينغ خبرة قليلة في البحث العلمي و في علاج (أو حتى تهجئة) مرض السكري.

كان سبب بانتنغ لفكرته هو أنه ربما لم يتمكن الآخرون من العثور على الإفراز الداخلي في مزيج البنكرياس، لأنه تم تدميره من خلال الإفراز الخارجي للبنكرياس.

ربما إذا تم إيقاف تدفق العصائر الهضمية أو الإفراز الخارجي من البنكرياس عن طريق سد قنوات البنكرياس أو ربطها جراحيًا، فعندئذ سيتوقف البنكرياس عن إنتاج إفرازه الخارجي. وسيؤدي ذلك إلى تدمير الغدد المفرزة للإفراز الخارجي، لكن خلايا الجزر المنتجة للإفراز الداخلي ستستمر في إنتاج المادة ( الأنسولين). يمكن بعد ذلك عزلها واستخدامها لعلاج مرض السكري.

بانتينغ (1941-1891)

ماكلويد

نُصح فريدريك بانتنج في جامعة غرب أونتاريو بإيصال فكرته التي تهدف إلى اكتشاف الأنسولين إلى جامعة تورنتو، التي كانت لديها مرافق بحثية واسعة النطاق تحت إشراف عالم الفسيولوجي والخبير المعروف في عمليات الأيض للكربوهيدرات، جون جيمس ريكارد ماكلويد.

في اجتماعهم الأول، كان ماكلويد متشككًا في كل من فكرته واعتماده كباحث من الأساس. فماكلويد كان يعلم أن العلماء المدربين بشكل أفضل، قد عملوا على نفس الفكرة تقريبًا. لكن ماكلويد كانت لديه قدرة إستيعابية، بما في ذلك الحيوانات المخصصة للبحث، والكثير من الطلاب المتحمسين للمساعدة في مختبره.

في النهاية قرر أنه لا ضرر من السماح للدكتور بانتينغ بمحاولة النجاح في الشئ الذي فشل فيه الآخرون. قدم ماكلويد مساحة لمعمل بانتنغ، وكلابًا للعمل عليها وخدمات مساعدة من طالب خلال صيف عام 1921.

كان ذلك الطالب هو تشارلز بيست، الذي وقع علية الاختيار ليعمل بجانب بانتينغ وتحت إشراف ماكلويد للعمل على فكرة اكتشاف الأنسولين.

جيمس ماكلويد (1876-1935)

الأبحاث في جامعة تورنتو

وجد فريدريك بانتنغ وتشارلز بست أن البحث كان صعبًا ومعقدًا. كان إجراء جراحة البنكرياس في ربط قنوات الكلاب أبعد ما يكون عن السهولة، خاصة خلال حرارة تورونتو الحارقة في صيف عام 1921. كما كان قياس نتائج عملهم بشكل دقيق ومتسق بعيدًا عن السهولة.

قبل مغادرة ماكلويد المعمل لقضاء العطلة، أعطى الباحثين الشباب إرشادات تفصيلية حول الإجراءات التي يجب اتباعها في عملهم، بما في ذلك النصائح الحاسمة حول كيفية إعداد مستخلص بنكرياس الكلاب المربوطة قناتها، وذلك للحقن في الكلاب الأخرى غير المصابة (وبالتالي المريضة بالسكري).

ضغط بانتينغ نفسه بإصرار وحماس كبيرين للحصول على نتائج إيجابية. ففي 30 يوليو، قام بانتينغ وبيست بحقن مستخلص من البنكرياس المتآكل من كلب قناته مربوطة في كلب مصاب بالسكري آخر تم إزالة بنكرياسه، فلاحظ انخفاض حاد في سكر الدم.

عندما عاد ماكلويد إلى تورونتو في نهاية الصيف، واجهه باحثون متحمسون يعتقدون أن تجاربهم مع ما أسموه “isletin” كانت ناجحة للغاية.

كان ماكلويد أكثر نقداً. حيث طلب من الثنائي أن يكررا ويوضحا عملهم بتفصيل دقيق، في حين اختلف بانتنغ بشدة مع ماكلويد حول المعدات المعملية والموارد التي توفر لهم.

مع استمرار التجارب في خريف عام 1921، وجد بانتنغ أنه يمكن التخلص من الإجراء المرهق لربط القنوات البنكرياسية في الكلاب. حيث كان من الممكن صنع مستخلص فعال من بنكرياس البقر المبرد أو بنكرياس الخنزير والذي يمكن الحصول عليه من المسالخ القريبة.

جيمس كوليب

كان الفريق البحثي يعلم أن اكتشاف الأنسولين أصبح حقيقة لا مفر منها، لكن كانت المشكلة الحقيقية هي جعل مستخلص البنكرياس يعمل بشكل ثابت لعلاج أعراض مرض السكري.

كان تبريد البنكرياس (الذي منع عمل الإنزيمات الهاضمة) خطوة مهمة إلى الأمام. كما أحرزت المجموعة تقدماً في تقنياتها في محاولة تنقية الأنسجة للحصول على الإفراز الداخلي أو الأنسولين.

انضمام ماكلويد

بناء على طلب فريدريك بانتينج، أضاف ماكلويد كيميائيًا حيويًا ماهرًا إلى الفريق في ديسمبر 1921. كان  كوليب أستاذًا في تورونتو في جامعة ألبرتا، وعاد إلى المدينة للعمل لبضعة أشهر مع ماكلويد في أبحاث أخرى. حيث بدأ على الفور في تحسين مستخلصات البنكرياس.

ومع ذلك، فإن العرض الأول لبحوث تورونتو في نهاية ديسمبر، في جمعية الفسيولوجيا الأمريكية، واجه انتقادات كبيرة من جمهور أطباء السكري المتميزين. لم تبدوا النتائج مقنعة بالنسبة لهم، على الرغم من كونها واعدة، حتى الآن أفضل بكثير مما أفاد به الآخرون.

في يناير 1922، قررت مجموعة تورنتو إمكانية أن تبدأ اختبارات مستخلص البنكرياس بأمان على البشر. في 11 يناير، تم حقن مستخلص البنكرياس في جسم ليونارد طومسون، صبي يبلغ من العمر 14 عامًا كان على حافة الموت بسبب مرض السكري في مستشفى تورنتو العام.

أصيب الجميع بخيبة أمل عندما أظهرت القياسات أن الاختبار كان فاشلاً. ولكن بعد 12 يومًا، في 23 يناير، استأنف الفريق حقن طومسون بالمستخلص، وحقق نجاحًا مذهلاً، حيث انخفضت مستويات السكر في الدم والبول، وأصبحت أعراض مرض السكري أقل وضوحاُ.

كان مفتاح النجاح في حالة المريض طومسون، هو أن كوليب استطاع تطوير عملية تنقية محسنة لإزالة الملوثات السامة من مستخلص ماكلويد و بانتنغ البنكرياسي. حيث عمل مستخلصه النقي من الشوائب باستمرار وفعالية.

تقرير أولي

استمر العمل بوتيرة محمومة. حتى نشرت المجموعة، تقريرًا أوليًا عن تجاربها السريرية على طومسون والعديد من المرضى الآخرين في مجلة الجمعية الطبية الكندية في 22 مارس 1922.

وفي 3 مايو 1922، سلم ماكلويد ورقة بحثية بعنوان: التأثيرات الناتجة من مستخلصات البنكرياس على مرض السكري. وفي اجتماع لرابطة الأطباء الأمريكيين في واشنطن، استخدم الفريق لأول مرة كلمة الأنسولين.

لسنوات عديدة بعد ذلك، أشرفت جامعة تورونتو على الإنتاج على أساس براءات الاختراع الممنوحة لها بسبب اكتشاف الأنسولين من قبل أعضاء فريقها البحثي. حيث قامت الجامعة بإعطاء الترخيص للشركات المصنعة، والتي كانت قادرة بحلول نهاية عام 1923، على توفير الأنسولين لضحايا مرض السكري حول العالم.

كانت إضافة الكيميائي بيتر مولوني إلى الفريق في ربيع عام 1922، بمثابة نقطة تحول في عمليات إنتاج الإنسولين. جعلت عملية مولوني المطورة لتنقية الشوائب؛ فكرة إنتاج الأنسولين بكميات كبيرة أمراً ممكناً.

جائزة نوبل في الطب

كل فرد في جامعة تورنتو كان يعلم أن هناك جائزة نوبل تنتظر من يساعد في اكتشاف الأنسولين.

كان لدى فريدريك بانتنغ الفكرة التي بدأت كل شيء. فكان يعتقد أنه هو وتشارلز بيست، واللذان يعملان بمفردهما بشكل رئيسي، أنهم قد اكتشفوا الأنسولين بتجاربهم على الكلاب في صيف وخريف عام 1921. كما لم يعجب بانتينج بماكلويد أبداً، وكان يعتقد أن جيمس كوليب -الذي كان على خلاف معه لمرة واحدة في المختبر فقط- قد أضاف شيئاً لتنقية الأنسولين.

تم منح جائزة نوبل في الطب لعام 1923 لبانتنغ وماكلويد بسبب اكتشاف الأنسولين. وبعدها أعلن  بانتنغ على الفور أنه كان ينبغي تكريم بيست وأنه سيقسم أموال الجائزة بالتساوي مع شريكه الشاب. ثم أعلن ماكلويد أنه سيقسم أموال جائزته بالتساوي مع كوليب.

كانت جائزة نوبل مثيرة للجدل بشكل كبيرة، ولكن بمرور الزمن أصبح إسمي بيست وبانتنغ مرتبطين بعملية اكتشاف الأنسولين. ونسى ماكلويد وكوليب تماماً. لكن ما يتفق عليه الأن بين جموع العلماء أن اكتشاف الأنسولين تم بمشاركة الكثيرين.

مع اكتشاف الأنسولين، أصبح السؤال الأساسي لمرض السكري يتعلق بالحياة، وليس سرعة الموت. بناءً على مساهمات أسلافهم، حققت مجموعة جامعة تورونتو من أول فريدريك بانتينغ، وتشارلز بيست، وجيمس كوليب، وماكلويد أحد النجاحات الطبية العظيمة في التاريخ الطبي الحديث.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

    موافق